التحذير
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :540027
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة السادسة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة السادسة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
3582 زائر
12/10/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة السادسة)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

نشرع -بعون الله تعالى- في معالجة الأصل الأول، الذي يقوم عليه الانحراف في التكفير، وهو: التكفير بغير مكفِّر.

ومعنى هذا الأصل الخبيث: أن يعمد مسلم إلى أخيه، فيخرجه عن دينه، ويحكم عليه بالكفر؛ لأمر لا يبلغ به ذلك.

وقد عرفنا أن التكفير حق الله -تعالى- وحده، لا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن منه وحده، فلا يجوز الحكم على اعتقاد أو قول أو عمل: أنه كفر؛ إلا إذا دل على ذلك الشرع، فباب التكفير -إذن- باب توقيفي، لا مجال فيه لرأي أو قياس أو نحوهما.

فالانحراف في هذا الجانب يأتي من الحكم على اعتقاد أو قول أو عمل: أنه كفر، من غير أن يدل الشرع على ذلك، ثم تعظم البلية -من بعد- عندما تنزل هذه الأحكام على الأعيان، فيُكَفَّر المسلمون، ويُخرَجون عن دينهم؛ نسأل الله العافية من كل فتنة وضلالة.

وحتى يتضح لنا هذا الانحراف، لا بد أن نتصور أولا حقيقة الإيمان -عند الخوارج المكفِّرين-.

لقد عرفنا أن الإيمان -في الشرع- قول وعمل، يزيد وينقص، وأنه ليس على درجة واحدة؛ بل منه أصل، ومنه كمال.

وهذه الحقيقة -بتمامها- ليست عند الخوارج، ولا عند غيرهم من أهل البدع -في مسائل الإيمان-؛ فإن هناك أصلا جامعا يشترك فيه جميع أهل البدع في مسائل الإيمان، وهو: أن الإيمان شيء واحد، لا يتبعَّض ولا يتجزَّأ، ومتى زال بعضه؛ فقد زال كله.

فالإيمان -عند أهل البدع- لا يقبل التفاوت، ولا الزيادة والنقصان، ومتى كان قابلا لشيء من ذلك؛ كان زائلا بالكلية، فمتى نقص الإيمان -عندهم-؛ زال -جملة- وانعدم؛ هذا أصل يشترك فيه جميع أهل البدع في مسائل الإيمان، على اختلاف أقوالهم ومذاهبهم -من بعد ذلك-.

ولْنرجع إلى الخوارج، الذين هم أصل حديثنا:

فالإيمان -عندهم- لا ينقسم إلى أصل وكمال، ومتى زال بعضه؛ فقد زال كله، وعليه؛ فالأعمال -عندهم- شرط في أصل الإيمان، كل عمل -على حدة- يُعَدُّ أصلا في الإيمان -بذاته-، فمتى تُرك؛ زال الإيمان كله.

فإذا تكلمنا على أعمال الجوارح -من صلاة، أو زكاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو بِرٍّ للوالدين، أو صلة للأرحام، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ إلى غير ذلك من الأعمال-؛ مع التنبيه على الخلاف المعتبر في المباني الأربعة بين أهل السنة؛ إذا تكلمنا على هذه الأعمال؛ فكل عمل بذاته -عند الخوارج- أصل في الإيمان.

فإذا تُرك الجهاد عندهم -مثلا-؛ فقد زال الإيمان كله، وصار التارك -عندئذ- من الكفار المرتدين، وكذلك إذا تُرك بر الوالدين، أو تُركت صلة الأرحام، أو تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك إذا وقع المسلم في بعض المحرمات -من قتل، أو زنا، أو سرقة، أو نحو ذلك-؛ فكل هذا -عند الخوارج- يُخرج عن الإيمان جملة، ويصيِّر التارك -إذا كان تاركا للواجبات-، والفاعل -إذا كان فاعلا للمحرمات-: من الكفار المرتدين.

هذه هي حقيقة الإيمان -عند الخوارج-، فهم يقولون -في الظاهر- كأهل السنة: الإيمان قول وعمل؛ ولكن هذا لا يكفي؛ بل لا بد من إتمام ما يعتقده أهل السنة -مما دل عليه الشرع-، لا بد من اعتقاد الزيادة والنقصان، والتفاوت في الإيمان، ولا بد من التمييز بين الأصل والكمال، وما يُخرج عن الإيمان -جملة-، وما لا يُخرج؛ لا بد من هذا كله، حتى يصير المرء على الجادة الصحيحة.

وبناء على هذه الحقيقة عند الخوارج؛ فقد اشتهر عنهم تكفيرهم للمسلمين بالمعاصي والسيئات، وهذا هو اعتقادهم الأعظم -كما قلنا من قبل-.

فصاحب المعصية -عند الخوارج- له حكم في الدارين: فأما الدار الأولى -التي هي الدنيا-؛ فحكمه فيها -عندهم-: الكفر، وإجراء أحكام الكفار كلها،التي أشرنا إلى طرف منها -قبل ذلك-؛ وأما الدار الثانية -التي هي الآخرة-؛ فحكمه فيها -عندهم-: الخلود في نار جهنم أبدا، لا يخرج منها قط، ولا يتخلف عنه الوعيد.

فهذا اعتقاد الخوارج في أصحاب الذنوب والمعاصي؛ بناء على تصورهم لحقيقة الإيمان.

فأما حكمهم على العصاة في الدنيا؛ فهو الكفر، وقاعدتهم في ذلك من جهة الاستدلال -وهي قاعدة الخوارج في كل حين؛ فانتبه-: أنهم يأخذون بالإطلاقات، وظواهر النصوص، ويعمدون إلى آيات نزلت في الكفار، فيجعلونها في المؤمنين؛ وهكذا قال ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-؛ كما ذكره عنه البخاري في «صحيحه»: أنه كان يرى الخوارج شر الخلق، ويقول: «إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين».

فهذه قاعدة مطردة عندهم -من جهة الاستدلال-: يأتون إلى النصوص التي وردت في الكفر وأهله، فيجعلونها في الإيمان وأهله، ويأخذون بظواهر النصوص، التي يُطلق فيها شيء من الكفر أو نحوه.

فمما يأخذون به:

* ما جاء في بعض النصوص من ذكر الخلود في النار في حق من أتى شيئا من المعاصي، وهكذا يقول ظاهر النص؛ ولكن حقيقته بخلاف ذلك.

فيأتون مثلا إلى قول الله -تعالى-: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81]، فظاهر النص -كما ترى-: أن من كسب سيئة -وهذا بظاهره عموم في كل سيئة ومعصية-؛ فهو من أصحاب النار خالدا فيها.

يقول أهل العلم: ليس الأمر على ما فهمتم؛ فإن الآية في الكفر، وقد جعلتموها في الإيمان؛ وهكذا قال عامة السلف في تفسير الآية: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي: شركا، ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ويدل على هذا نص الآية نفسه؛ فإن إحاطة الخطيئة لا تكون إلا في الكفر والشرك، فمن أتى معصية أو ذنبا دون الكفر والشرك؛ فإنه لا يصدق عليه أنه قد أحاطت به خطيئته؛ لأن النص والإجماع -كما عرفنا- يدلان على أن العاصي ليس بكافر، وأنه في مشيئة الله، وأنه يمكن أن يتخلف عنه الوعيد؛ فمثل هذا لا تحيط به خطيئته، وإنما الذي تحيط به خطيئته هو الذي لا يكون له أمل في المغفرة، ولا يكون ذلك إلا للمشرك؛ فالآية في المشركين، جعلوها في المؤمنين.

وكذلك قول الله -تعالى-: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: 14].

قالوا: هذه معصية، وهذا تعدٍّ للحدود، يجعل الله -تعالى- صاحبهما مخلدا في النار.

قال أهل العلم: الآية -أيضا- في الكفر وأهله، ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ أي: غير مُقِرٍّ بذلك ولا منقاد له؛ فإن الآية جاءت في أعقاب بيان أحكام الفرائض -التي هي المواريث-، ومعلوم أن كثيرا من الناس -وهذا يُسمع الآن للأسف- يقول: إن هذه القسمة -قسمة الله سبحانه وتعالى في الفرائض والمواريث-: قسمة ضِيزَى!! قسمة ظالمة جائرة!! أيُّ وجه للتفريق بين الذكر والأنثى؟! أيُّ وجه للتفريق بين فلان أو فلان -من الأقارب أو أصحاب الفرائض-؟!

فالذي يقول هذا الكلام: يعترض على حكم الله، ويرده على الله، فهو واقع -إذن- في كفر إباء واستكبار -وقد تكلمنا عليه-؛ فالآية إنما وردت في هؤلاء، فهم الذين يخلدون في النار أبدا؛ لأنهم كفار مشركون؛ مع ضرورة التفريق بين النوع والعين، وهذا هو الأصل الثاني عند الخوارج -كما سنعرف-.

ومن ذلك: قول الله -تعالى-: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء: 93].

قالوا: هذه معصية دون الكفر، وهي: القتل، قد حكم الله على فاعلها بالخلود في النار.

فنقول: الخلود هنا -وهذا من ردود أهل العلم عليهم، فالردود عدة- هو: المكث الطويل، وهذه حقيقة الخلود في اللغة، فلا يلزم منه التأبيد -أن الذي يدخل في النار لا يخرج منها أبدا-، وقد حملناه على هذا المعنى في هذه الآية خاصة؛ لما دل عليه النص والإجماع من أن القاتل لا يكفر، ومن أن أصحاب الذنوب عموما لا يكفرون؛ فهذه عقوبته، وقد تتخلف؛ فإن القاعدة -كما عرفت- أن صاحب الذنب في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ فعقوبة القاتل العمد هي هذه -إن أرادها الله تعالى به-، فقد ينفذها فيه، وقد يعفو عنه، فلا ينفذها فيه.

فهذا نوع من الإطلاقات التي يعتمد عليها الخوارج.

* وهناك نوع آخر، وهو: ما يجيء فيه نفي الإيمان عن العصاة والمذنبين؛ كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن»، قيل: يا رسول الله، من هو؟ قال: «الذي لا يأمن جواره بوائقه»، والبوائق: الغوائل والشرور، أي: الذي لا يأمن جاره شروره ومكايده؛ وما أكثر الذين يتعدون على جيرانهم -نسأل الله العافية-؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يحكم على هؤلاء بأنهم لا يؤمنون.

قال الخوارج: فهذا نفي للإيمان، يقتضي الكفر.

قال أهل العلم: لا؛ بل الإيمان المنفي هنا هو الإيمان الواجب، وهذا مبني على تقسيم الإيمان وكمال -كما عرفت-، فالذي يُنفَى عن العصاة إنما هو إيمانهم الواجب، الذي يصيِّرهم مستحقين للوعيد والعقوبة من الله -سبحانه وتعالى-؛ فالزاني -مثلا- متعرض للوعيد الشديد، مستحق لغضب الله -تعالى- وعقوبته، وهو -بمعصيته- يقع في أمر حرام عليه، ويترك أمرا واجبا عليه؛ لأجل هذا يزول عنه هذا الإيمان الواجب؛ يقال: ليس بمؤمن، أي: الإيمان الواجب عليه؛ ولكن لا يزال معه أصل الإيمان: لا يزال مؤمنا بالله، ورسوله، ودينه، ولا يزال مُقِرًّا بتحريم الحلال، وتحليل الحرام؛ فهذا القدر الذي معه يعصمه عن الكفران، ويُبقِي عليه في دائرة الإسلام؛ فنَفْيُ الإيمان عن العصاة: إنما هو نفيٌ للإيمان الواجب، لا لأصل الإيمان.

* ومن الإطلاقات التي يعتمد عليها الخوارج: ما يجيء فيه إطلاق لفظ الكفر على بعض المعاصي؛ كما عرفنا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض».

قالوا: فقتل المسلم -إذن- كفر.

قال أهل العلم: لا؛ بل هذا هو الكفر العملي -الذي عرفناه من قبل-، يُطلق فيه اسم الكفر على المعصية -على وجه الردع والزجر والترهيب-، وعلى إرادة أن هذه المعصية من أعمال الكفار، ومن خصالهم، ومن شأنهم؛ فالذي يقع في شيء منها يكون مشابها للكفار -في هذه الحيثية-، فالكفار هم الذين يقتل بعضهم بعضا، ويسفك بعضهم دم بعض، والكفار الجاهليون هم الذين يطعنون في الأنساب، وينوحون على الموتى؛ إلى غير ذلك مما جاء به النص في إطلاق الكفر عليه، فالمقصود: أن هذه المعاصي من شأن الكفار، ومن خصالهم وسلوكياتهم؛ فمن وقع في شيء منها؛ فقد شابههم فيها، من غير أن يكون منهم، أو يكون كافرا مثلهم.

* ومن الإطلاقات كذلك: ما يجيء فيه: ليس منا من فعل كذا؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا؛ فليس منا»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من لم يأخذ من شاربه؛ فليس منا».

قال الخوارج: «ليس منا» أي: خرج عن ديننا.

قال العلماء: لا؛ بل قوله: «ليس منا» أي: ليس من العاملين بطريقتنا، وليس من المتمسكين بسنتنا، وليس من المهتدين بهدينا؛ فالذي يغش، أو ينقص المكيال والميزان؛ أيكون عمله هذا موافقا للإسلام؟! هل الإسلام يأمر بالغش؟! الجواب: لا؛ فالذي يفعل هذه الأفعال ليس متمسكا بأخلاق الإسلام، ولا سلوكياته، ولا هديه، وليس معنى ذلك أنه فارق الإسلام بالكلية.

* ومن الإطلاقات التي يعتمد عليها الخوارج: ما يجيء فيه إطلاق لفظ «الجاهلية» على عمل ما، أو خصلة ما؛ كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أربع في أمتي من خصال الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله عنه- وقد عيَّر رجلا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات وليس في عنقه بيعة؛ مات ميتة جاهلية»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من فارق الجماعة قِيدَ شبر فمات؛ فميتته جاهلية».

يقول الخوارج: هذا حكم على هذه الأفعال بأنها من الجاهلية، فأصحابها -إذن- من أهل الجاهلية.

وقال أهل العلم: لا؛ بل هذا كالكفر العملي تماما، يُقصَد به: أن هذه خصال من خصال الجاهلية، وسلوكيات من سلوكيات الجاهلية، فالذي يقع فيها إنما يقع في أمر من أمور الجاهلية، وليس هو من أهل الجاهلية؛ فالذي يفخر بحسبه، ويتعالى على الناس، ويقول: أنا ابن وزير أو أمير أو نحو ذلك؛ فالذين يفعلون إنما هم أهل الجاهلية، وهذا أمر لا إقرار له في الإسلام؛ فالذي يقع في شيء منه: يشابه الجاهلية في هذه الخصلة، وليس هو منهم؛ ويمكنك أن ترى هذا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أربع في أمتي»، فبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الخصال في أمته، فمسمى «الأمة» -إذن- باق، والذي يقع في هذه الأشياء لم يخرج عن كونه من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو من الأمة؛ ولكنه شابه الجاهلية في خصلة ما، أو خُلُق ما، أو عمل ما.

* ومن الإطلاقات -وبه نختم-: ما يجيء فيه إطلاق البراءة على من وقع في شيء من المخالفات؛ كما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- وهو في «الصحيحين»: «أنه برئ من الصَّالِقَة، والحَالِقَة، والشَّاقَّة»، فأما الصالقة؛ فهي المرأة التي ترفع صوتها عند المصيبة، وأما الحالقة؛ فهي التي تحلق شعرها عن المصيبة، وأما الشاقة؛ فهي التي تشق ثيابها عند المصيبة؛ برئ النبي -صلى الله عليه وسلم- من هؤلاء.

ويظن الخوارج أن البراءة هنا حكم بالمروق من الملة.

ويقول أهل العلم: البراءة هنا براءة من الأعمال، من هذه الأعمال المعينة التي تخالف الشرع، والبراءة من الشخص -حينئذ- هي براءة مقيدة، في عمله هذا الذي خالف فيه الشرع، وليس معنى ذلك أننا نتبرأ منه -كما نتبرأ من الكفار-، ونخرجه عن الإسلام -كما نفعل مع الكفار-.

والقاعدة في هذا الأمر كله -عند الخوارج-: الاعتماد على الظواهر، من غير نظر في نصوص أخرى أو أمور أخرى تبيِّنها؛ فاحفظ هذا، حتى تعرف حقيقة القوم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك له الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وأما حكم العاصي -عند الخوارج- في الآخرة؛ فهو التخليد في نار جهنم أبدا.

وهذا بناء على تكفيرهم له، ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام: أن الكافر -حقا- يُخَلَّد في النار أبدا، لا أمل له في المغفرة، ولا في الخروج، ولا في الشفاعة؛ فالخوارج أَتَوْا إلى هذه الأحكام -التي هي أحكام الكفار-، فجعلوها في المؤمنين!!

فانظر -رحمك الله- إلى الضلال كيف يصنع بأهله! ولا تَحْقِرَنَّ منه شيئا؛ فإن بعضه ينبني على بعض.

انظر في شأن الخوارج: أتوا إلى معصية هي دون الكفر، فكفَّروا بها -وليست كذلك-، ثم أسقطوا الحكم على المعيَّن، فعاملوه معاملة الكفار في الدنيا، وحكموا عليه بالخلود في النار في الآخرة!!

فهذه ضلالات بعضها فوق بعض، ما قامت إلا على فهم فاسد، وغلط كاسد، وسوء تصور لدين الله -سبحانه وتعالى-؛ فلا تَحْقِرَنَّ من الضلال شيئا، ولا تَسْتَسْفِهَنَّ منه شيئا؛ فإنه ما من ضلالة إلا وأدت إلى ما فوقها، وما هو أعظم منها.

فالخوارج يحكمون على عصاة المسلمين بأحكام المشركين في الدار الآخرة، فيُنفذون فيهم الوعيد -ولا بد-، فالعاصي -عند الخوارج- لا بد أن ينفذ فيه الوعيد، لا يمكن أن يتخلف، فلا يقولون -كما يقول أهل الحق-: هو في مشيئة الله؛ بل يقولون: هو معذَّب حتما.

وهذا مبني على التكفير، ولو كان أصلهم في التكفير حقا؛ لكان الأمر كما قالوا؛ فإن من يَلْقَ الله -تعالى- كافرا؛ لا بد أن ينفذ فيه الوعيد؛ ولكن هل عصاة المسلمين كذلك؟ الجواب: لا -بالنص والإجماع -كما عرفنا-، فلا يصح أن تُنزَّل عليهم أحكام الكفار -لا في الدنيا ولا في الآخرة-، ولا يصح أن يقال في شأنهم: إن الوعيد نافذ فيهم -ولا بد-.

ثم الخوارج يحكمون عليهم بالخلود في نار جهنم أبدا؛ وهذا لا يكون إلا للكفار والمشركين، وعصاة المسلمين ليسوا كذلك.

ويُتطرَّق هنا إلى مسألة عظيمة، وهي: مسألة الشفاعة.

فقد دل النص والإجماع على أن هناك شفاعة تكون في الآخرة، منها ما هو خاص برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنها ما يشركه فيه الأنبياء، والمؤمنون، والصالحون؛ وهذا القسم الثاني هو ما نتكلم فيه الآن، الذي يتعلق بإخراج عصاة الموحدين من النار.

هذا نوع من أنواع الشفاعة، يقوم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقوم به المؤمنون والصالحون، وهذا أمر دل عليه النص والإجماع، والأحاديث فيه متواترة، مقطوع بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أُعطيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي - فذكر: وأُعطيتُ الشفاعة»، وهذا وإن كان ينصرف إلى المقام المحمود؛ لكن يمكن أن ينسحب على بعض الشفاعات الأخرى؛ وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لكل نبي دعوة مستجابة، وقد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من سأل لي الوسيلة -أي: بعد الأذان-؛ حَلَّتْ له الشفاعة»، وإذا تركنا ذلك إلى الأحاديث التي فيها وصف تفصيلي لكيفية هذه الشفاعة في إخراج عصاة الموحدين من النار، وأنه يخرج من النار من كان في قلبه وزن دينار من إيمان، ويخرج من النار من كان في قلبه وزن نصف دينار من إيمان، ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فهذه كلها نصوص صريحة متواترة مقطوع بها -عند أهل العلم-، مخرَّجة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها.

فهذا أصل يؤمن به أهل الإسلام، وأهل السنة والجماعة؛ يؤمنون بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإخراج عصاة الموحدين من النار؛ لأنهم وإن استحقوا النار بذنوبهم -وقد عرفتَ أن منهم من يعفو الله عنه، فلا يدخله النار أصلا-؛ لكن من دخل منهم النار بمعصيته؛ فإنه لا يخلَّد فيها أبدا، طالما أنه موحد، ميِّتٌ على التوحيد والإسلام والحنيفية، فمهما أصابه في النار، لا بد أن يخرج منها بعد ذلك.

فالخوارج تنكر هذا النوع من الشفاعة، بناء على أصلهم في عدم إخراج عصاة الموحدين من النار.

ولهم في ذلك شبهة في بعض الظواهر والإطلاقات -أيضا-، يقولون -وهذا هو ما تسمعونه الآن؛ امتدادا لمذهبهم ومذهب المعتزلة وغيرهم-: إن الله -تعالى- ينفي الشفاعة في القرآن؛ ويأتون بمثل قول الله -تعالى-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 48]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 123]، وكمثل قوله -تعالى-: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 48]، وقوله -تعالى-: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 167]، وقوله -تعالى-: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ﴾ [الزمر: 19]، ونحو ذلك.

يقولون: حسبنا كتاب ربنا، وكتاب الله -سبحانه وتعالى- ينفي الشفاعة، والسنة تثبت الشفاعة، فلا اعتبار لنا بالسنة!!

هكذا يقولون -بجهلهم وضلالهم-، ونسُوا -أو تناسَوْا- أن القرآن نفسه يثبت الشفاعة.

يقول الله -تعالى-: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255]، ويقول -تعالى-: ﴿يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ [طه: 109]، ويقول -تعالى-: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم: 26].

ولهذا قال العلماء: الشفاعة شفاعتان: شفاعة مُثبَتَة، وشفاعة مَنْفِيَّة.

فالشفاعة المثبتة هي التي وردت في هذه الآيات، وصدَّقتها السنة: هي الشفاعة التي تكون بعد إذن الله -سبحانه وتعالى-، فلا يتقدم الشافع بين يديه-وإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تكون إلا لأهل التوحيد، ولا تكون إلا لمن رضي الله قوله وعمله.

وأما الشفاعة المنفية التي ذكرها الخوارج؛ فهي الشفاعة في الكفار؛ واعتبر بكلمة السر: «انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين»؛ الآيات التي ذكرناها في نفي الشفاعة: هي في الشفاعة التي تكون في الكفار، وهي في الشفاعة التي كان يعتقدها المشركون أهل الجاهلية: من أنها تكون بغير إذن الله -تعالى-، وأن الشافع يكون شريكا لله في ملكه وقدرته، يتقدم بين يديه، ويشفع من غير إذنه؛ هكذا كان يعتقد الجاهليون، فأبطل الله -تعالى- ذلك، وبيَّن أن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذنه ومشيئته.

فلا بد أن نفرق بين النوعين: الشفاعة التي جاءت في الأحاديث هي الشفاعة التي جاءت في القرآن، وهي الشفاعة المثبتة، وأما الشفاعة المنفية؛ فأمر آخر تماما، لا علاقة له بما نتكلم فيه.

فهكذا يتهاوى مذهب الخوارج -في هذه الجزئية- ويتساقط، ويُعلم أن ضلالهم مبني على سوء الفهم؛ وهكذا تشخيص مذهبهم -عند العلماء-، فالعلماء يقولون: إن مذهبهم قائم على ضلال وجهل وسوء في الفهم، وهو ما تراه عيانا أمامك الآن: نصُّ يساء فهمه، وحديثٌ يوضع في غير موضعه، وإطلاقٌ يأتي في غير مورده؛ وعلى هذا تُبنَى الفتاوى، وتُستَحل الدماء، ويحدث الفساد في الأرض؛ فالأمر عتيق، ليس وليد هذه الأيام.

نسأل الله -تعالى- أن يكفينا الفتن كلها، وأن يكشف عنا الضلالات والموبقات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت