التحذير <"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542188
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الخامسة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة الخامسة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
3542 زائر
05/10/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة الخامسة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد شرعنا في الكلام على أصل الخوارج الأعظم، الذي هو تكفير المسلمين بغير حق، وذكرنا أنه ينبني على أصلين كبيرين، وهما: التكفير بغير مكفِّر، وعدم النظر في الشروط والموانع -عند التكفير بالمكفر-.

وقبل الخوض في هذين الأصلين؛ ينبغي أن نتكلم أولاً على الحقيقة الشرعية للإيمان والكفر، حتى نبتدئ بمعرفة الحق والاهتداء إليه، وحتى يسهل علينا فهم مذهب الخوارج، وفهم حقيقة ما وقع لهم من الخلل.

ولنبتدئ بالكلام على الإيمان.

فاعلم -أرشدك الله لطاعته- أن حقيقة الإيمان الشرعية مركّبة من القول والعمل، فالإيمان -في الشرع- قول وعمل، يزيد وينقص؛ على هذا دلّ كتاب ربنا، وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، وعليه انعقد إجماع السلف الصالحين -خير قرون هذه الأمة-.

فأما القول؛ فينقسم إلى قسمين: قول القلب، وقول اللسان.

فأما قول القلب؛ فهو المعرفة، والإقرار، والتصديق، واليقين، ونحو ذلك؛ فالقلب يبتدئ أولاً بمعرفة إلهه وربه، فيعرف أن له ربًا، خالقًا رازقًا مدبرًا، ويعرف أن هذا الرب هو إلهه المستحق لعبادته وحده لا شريك له؛ يعرف ربه بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فيصدق به، ويقرّ ويوقن؛ وهكذا في سائر أمور الإيمان وأركانه.

فهذا هو قول القلب، وهو من الإيمان -بنص الكتاب والسنّة-، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 15]، فوصفهم بعدم الريب -الذي هو اليقين-، وأدخله في الإيمان.

ويقول تعالى أيضًا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8] ، يريد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ولم يدخل الإيمان قلوبهم؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ [المائدة: 41]، فأدخل في الإيمان إيمانَ القلب.

وأما قول اللسان؛ فهو الشهادتان: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وهاتان الشهادتان ترجمة لقول القلب وتعبير عنه، فالمؤمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -مستيقنًا بها قلبه-، وهذا أيضًا من حقيقة الإيمان؛ يقول الله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ الآية [البقرة: 136]، ويقول -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث شعب الإيمان- : «أعلاها لا إله إلا الله»، وفي حديث وفد عبد القيس -في الصحيحين-: يقول -صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وذكر تمام الحديث.

وأما العمل؛ فينقسم أيضًا إلى قسمين: عمل القلب، وعمل الجوارح.

فأما عمل القلب؛ فهو توجُّهه إلى من صدّق به، فالتصديق والإقرار يأتيان أولا، ثم يأتي من بعدهما توجُّهٌ من القلب، وهذا التوجه هو الذي يقال له: عمل القلب، أو: عبادته؛ كمثل الإخلاص، والمحبة، والخوف، والرجاء، والصبر، والشكر، والتوكل، وغير ذلك من عبادات القلب.

يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]، فأدخل في الإيمان وَجَلَ القلب وتوكُّلَه، وهما من أعماله وعباداته.

ويقول تعالى:﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23] ، ويقول : ﴿ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175] ، فهذه كلها عبادات للقلب، يدخلها الله تعالى في الإيمان.

وفي حديث الشعب المذكور: «والحياء شعبة من الإيمان»، والحياء من أعمال القلوب؛ ولما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل -وهو يعظ أخاه في الحياء-، قال: «دعه؛ فإن الحياء من الإيمان».

وأما عمل الجوارح؛ فهو ما يُؤَدَّى بالأركان والأعضاء من الأعمال الظاهرة، فيدخل في ذلك كل عمل يؤديه اللسان -سوى الشهادتين-؛ كذكر الله، وقراءة القرآن ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والكلمة الطيبة، ونحو ذلك؛ ويدخل في ذلك كل عمل يؤدّى بأعضاء البدن وجوارحه: من صلاة، أو زكاة، أو صيام، أو حج، أو غير ذلك؛ فهذا كله داخل في مسمى الإيمان وحقيقته.

يقول ربنا تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، والإيمان هنا – باتفاق أهل العلم- هو صلاة المسلمين إلى بيت المقدس -قبل تحويل القبلة-، فسمّى الله تعالى الصلاة إيماناً؛ وكما في الآية التي سمعناها-آنفًا- في تمامها: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنفال: 2-4]، فأدخل الصلاة والإنفاق في الإيمان؛ وكما في الآية التي سمعناها أيضًا:﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 15]، فأدخل الجهاد في الإيمان؛ وفي حديث الشعب: «وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق»، وإماطة الأذى من أعمال الجوارح؛ وفي حديث وفد عبد القيس في تفسير الإيمان : «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس من المغنم»، فالصلاة والزكاة وأداء الخُمس: كل هذا من أعمال الجوارح؛ وفي حديثه -عليه الصلاة والسلام-: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ومن قام رمضان إيماناً واحتسابًا»، فأدخل الصيام والقيام في الإيمان.

فهذا هو تفسير القول والعمل، وكل ما ذكرناه داخل في حقيقة الإيمان ومسماه، لا نفرق بين بعضه وبعض، فالإيمان قول وعمل، لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا نفرق بين القول والعمل في الإيمان، فكلاهما -بأقسامهما- داخل في حقيقة الإيمان ومسماه -في الشرع-.

وأما الزيادة والنقصان؛ فقد تظاهرت النصوص بإثباتهما، فالقرآن مصرِّح بالزيادة، والسنة مصرِّحة بالزيادة والنقص، وما كان قابلًا للزيادة؛ فهو قابل للنقص -بطبيعة الحال-.

قد سمعنا في كلام الله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾، ويقول تعالى:﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً ﴾ [المدثر: 31]، ويقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ [محمد: 17]، ويقول تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ [التوبة: 124]؛ إلى غير ذلك من الآيات.

وفي حديث الشعب: «أعلاها كذا، وأدناها كذا»؛ فالإيمان -إذن- متفاضل، بعضه أعلى من بعض، وبعضه أدنى من بعض؛ وفي حديث الشفاعة: يخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه «يخرج من النار من كان في قلبه وزن دينار من إيمان، ويخرج من النار من كان في قلبه وزن نصف دينار من إيمان، ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، فهذا كله تناقص، وقد أثبت -صلى الله عليه وسلم- الإيمان لجميع الأصناف؛ وفي حديث نقصان دين المرأة، لما وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بنقصان الدين، فسئل عن ذلك، فقال: «أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟»، فجعل -صلى الله عليه وسلم- تركها للصلاة والصيام -في حال الحيض- نقصانا لدينها، ومن ثمَّ نقصانا لإيمانها.

فالإيمان يزيد وينقص، وزيادته بالطاعات، ونقصانه بالمعاصي والسيئات، فكلما ازداد المرء طاعة وعبادة لله؛ كلما زاد إيمانه، وكلما ازداد -عياذًا بالله تعالى- من المخالفات والمعاصي والسيئات؛ كلما نقص إيمانه، وانحطت درجته -عند الله سبحانه وتعالى-.

فهذه هي الحقيقة الإجمالية للإيمان -في الشرع-، وهذا هو شعار السنة وأصل أهلها، الذي يتشرفون بالانتساب إليه؛ اتباعًا لكتاب ربهم وسنة رسولهم -صلى الله عليه وسلم-، فما فتئ أهل السنة -في كل زمان ومكان- يقولون: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص».

ومن المسائل المهمة في حقيقة الإيمان؛ مباينةً للخوارج وغيرهم: أن الإيمان -عند أهل السنة، وكما دل عليه الشرع- ليس على درجة واحدة، وليس شيئًا واحدًا لا يتبعَّض ولا يتجزَّأ؛ بل هو يزيد وينقص – كما عرفت-، ومنه أصل، ومنه كمال.

فالإيمان منه الأصل، الذي يحتفظ بالمسلم في دائرة الإسلام، ولا يخرجه عن دينه إلى دائرة الكفران؛ ومنه الكمال، الذي إذا زال عن المسلم؛ لم يَزُلْ عنه أصل إسلامه؛ فهناك الكمال الواجب، وهناك الكمال المستحب.

فالكمال الواجب هو فعل الواجبات وترك المحرمات، فإذا ترك المسلم شيئًا من الواجبات، أو فعل شيئًا من المحرمات؛ فإن إيمانه ينقص– كما عرفت-، والذي ينقص هو إيمانه الواجب الذي أوجبه الله عليه، ويصير متعرِّضًا للوعيد والعقوبة؛ ولكنه لا يزال في دائرة الإسلام؛ إذ إن معه أصل الإيمان.

وأما الكمال المستحب؛ فهو فعل المستحبات، وترك المكروهات، فإذا ترك المسلم شيئًا من المستحبات، أو فعل شيئًا من المكروهات؛ فإنه يفقد إيمانه المستحب، يفقد الفضيلة والدرجة العالية الحسنى؛ ولكنه لا يتعرض لشيء من الوعيد والعقاب، وهو -في نفس الوقت- معه أصل الإيمان، الذي يحتفظ به في دائرة الإسلام.

فهذا التقسيم من الأهمية بمكان، وليس المقصود هنا أن نخوض في دقائق، إنما تُبيَّن في مجالس العلم لطلبة العلم، وإنما المقصود إيضاح الأمر بجملته لعامة المسلمين؛ فلا بد أن نفهم أن للإيمان أصلاً وكمالاً، حتى نباين الخوارج وغيرهم من أهل البدع –كما سيأتي شرحه إن شاء الله-.

وبناء على تقسيم الإيمان إلى أصل وكمال؛ يأتي الكلام على حكم العصاة ومرتكبي الكبائر.

فالذي دلّ عليه الشرع: أن من أتى ذنبًا -كبيرة كان أم صغيرة-؛ فإنه لا يكفر، ولا يخرج عن ملة الإسلام، وإن كان قد نقص إيمانه، وزال عنه إيمانه الواجب، وهو متعرض للعقوبة من الله -سبحانه وتعالى-؛ إلا أنه لا يكفر بذلك ، ولا يخرج عن دينه، والوعيد الذي هو متعرِّض له: هو في مشيئة الله -سبحانه وتعالى-، إن شاء أنفذه به، وإن شاء أخلفه عنه.

يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فغاير -سبحانه وتعالى- وفرّق بين الشرك وبين ما دونه، وجعل ما دون الشرك داخلاً تحت مشيئته، فحكمه -إذن- ليس كحكم الشرك؛ بل هو في مشيئة الله تعالى، يغفره لمن أراد، وأما الكفر والشرك؛ فإن الله تعالى لا يغفرهما أبدًا، فإذا مات العبد عليهما، ولقي ربه بشيء منهما -وهو غير معذور-؛ فإنه لا يغفر له أبدًا، وأما ما دون الشرك والكفر من المعاصي والسيئات -من ترك واجب أو فعل محرم-؛ فهذا كله في مشيئة الله -عز وجل-، ولا يكفر به المسلم، ولا يخرج عن دينه.

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وَفَى منكم؛ فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، ثم عوقب به في الدنيا؛ فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، ثم ستره الله؛ فهو إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء عفى عنه»، فدلّ هذا الحديث على أن ما دون الشرك ليس حكمه كحكمه؛ بدليل أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في شأن الدنيا والعقوبة فيها: «ومن أصاب من ذلك شيئًا، ثم عوقب به في الدنيا؛ فهو كفارة له»، ولو كانت الذنوب تخرج عن الملة؛ لما كانت العقوبة تكفرها -بمجردها-؛ بل كان لا بد من قدر زائد على ذلك، وهو الاستتابة والعودة إلى الإسلام؛ وأما في الآخرة فالأمر أظهر، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «ومن أصاب من ذلك شيئًا، ثم ستره الله؛ فهو إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء عفى عنه»، فلو كان قد لقي ربه كافرًا -على هذه الصفة-؛ لما ساغ له أن يدخل تحت المشيئة.

وقد تواتر في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعُلم بالاضطرار: أنه لم يكن يعامل العصاة معاملة الكفار والمشركين؛ بل كان يعاملهم معاملة المسلمين، فمن كانت معصيته تستوجب حدًا؛ أقامه عليه، ومن كانت معصيته لا تستوجب حدًا؛ وعظه، وتَوَّبه، وخوَّفه، وأمره، ونهاه؛ من غير أن يأمره بمعاودة إسلامه -مرة أخرى-، وهذا معلوم بالضرورة – كما أشرتُ إليه-.

فهذا كله دليل بيّنٌ على أن أصحاب الذنوب والمعاصي لا يكفرون، ولا يخرجون عن ملة الإسلام، وإيمانهم ينقص – كما عرفت-، فيقال فيهم: نقص إيمانهم، زال إيمانهم الواجب؛ وكما يقول بعض العلماء: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بمعصيته، فيستحق اسم الفسق، الذي لا يخرجه عن أصل الإيمان؛ مباينة للمعتزلة، ولا نطوِّل بذكر هذه الدقيقة.

وأما بالنسبة للوعيد؛ فهو -كما عرفت- في مشيئة الله تعالى، ليس حتمًا أن ينزله به، فمن أتى معصية -بترك واجب، أو فعل محرم-؛ فهو متعرِّض للعقاب، مستحق للوعيد؛ لكنه لا يجب على الله تعالى أن ينزله به، فقد ينزله به، وقد يعفو عنه ويغفر له -برحمته وفضله سبحانه وتعالى-.

فهذا هو القول في حقيقة الإيمان -في شرعنا، وعند أهل الحق -أهل السنة والجماعة-؛ نسأل الله أن يهدينا للتي هي أقوم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ننتقل بعد ذلك – إخوة الإسلام- إلى الكلام على حقيقة الكفر.

فالكفر -في شرعنا- ينقسم إلى قسمين: كفر أكبر، وكفر أصغر.

فأما الكفر الأكبر؛ فهو الذي يخرج عن الملّة، ويصيّر المسلم مرتدًا - والعياذ بالله-.

وجامع القول في صفته: أنه ما عاد بالإبطال على أمر معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فمن عارض -مثلا- ركنًا من أركان الإيمان، فكذب بالله، أو ملائكته، أو كتبه، أو رسله، أو اليوم الآخر، أو القدر؛ فصنيعه هذا يدخل تحت الكفر الأكبر، الذي يخرج عن الملة، ويصيِّر المسلم مرتدًا؛ وعلى هذا فَقِسْ في كافة الصور، التي دل الشرع على كونها من الكفر الأكبر.

والكفر الأكبر -عند أهل السنة والجماعة- له أنواع وأقسام، وهي ستة:

فأولها: كفر التكذيب، الذي هو اعتقاد كذب شيء معلوم بالضرورة من الدين؛ كمن اعتقد في القلب -والعياذ بالله- كذب الرسل؛ كالذين كذبوا الرسل من أقوامهم.

والقسم الثاني: هو كفر الجحود، والفرق بين الجحود والتكذيب: أن التكذيب هو اعتقاد القلب لكذب الشيء -مع تصريحه بذلك بلسانه-، وأما الجحود؛ فهو التكذيب باللسان -مع التصديق بالقلب-؛ كما في قول الله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾، فالجحود إنما يكون بالظاهر، مع اعتقاد القلب لخلاف ذلك.

وأما القسم الثالث؛ فهو كفر الإباء، والإباء هو الاستكبار، ومعناه: أن يستكبر المرء عن الانقياد لشرع الله -عز وجل-، فيتكبر ويعلو، ويُخرج نفسه عن الانقياد والالتزام لهذا الأمر الذي أتاه من عند الله تعالى؛ وبهذا النوع من الكفر كَفَرَ إبليس، كما قال الله تعالى: ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، فحقيقة صنيعه: أنه رد الأمر على الله، واستكبر عن الانقياد، ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾، فأبى واستكبر أن ينقاد لأمر الله -عز وجل- بالسجود لمخلوق هو -عنده- أدنى منه؛ وعليه؛ فمن استكبر عن الانقياد لشيء من دين الله تعالى وشرعه؛ فهو كافرٌ كفرَ إباء واستكبار.

وأما القسم الرابع؛ فهو كفر الشك، والشك: التردد بين طرفين، بأن يشك المرء -مثلا- في وجود الله: أهو موجود أم لا، أو يشك في ربوبيته: أهو رب للناس أم لا، أو يشك في ألوهيته: أهو إله للناس أم لا،أو يشك في محمد -صلى الله عليه وسلم-: أهو رسول أم لا.

وأما القسم الخامس؛ فهو كفر النفاق، وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر؛ كما كان عليه المنافقون، الذي كانوا على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ كما سمعنا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]، ﴿ إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].

وأما القسم السادس؛ فهو كفر الإعراض، والإعراض هو ترك الانقياد، أو -بعبارة أدقّ-: هو عدم الاتباع؛ بأن لا يتبع المرء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً؛ كما قال أهل العلم في صفة هذا القسم: أن يقول المرء للرسول -بلسان حاله أو مقاله-: لا أتبعك ولا أعارضك، ولا أحبك ولا أبغضك، ولا أواليك ولا أعاديك؛ فهذا هو الذي يقال له: كفر الإعراض؛ لأنه تسلط بالإبطال على قضية الاتباع، فصاحب هذا الكفر –والعياذ بالله- لم يتبع الرسول، ولم يؤمن به، ولم يدخل في دينه ودين الله –عز وجل-؛ ولهذا يقول العلماء من أهل السنة: الكفر يكون بالترك؛ أي: بترك الاتباع؛ كما في الصورة التي ذكرناها.

وإذ قد تكلمنا على قضية الترك؛ فلا بد أن نبيِّن أن الكفر -عند أهل السنة، وفي شرع الله عز وجل- يكون بالاعتقاد، وبالقول، وبالعمل.

فليس الكفر -كما يتصور كثير من الناس- محصورا في الاعتقاد فقط، وليس الكافر هو الذي يكذب الله تعالى، أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو ينكر شيئا من فرائض الدين المقطوع بها -فقط-؛ بل الكافر مفهومه أعم من ذلك.

فالكفر يكون بالاعتقاد -كما ذكرت-، ويكون بالقول؛ كالذي يسب الله، أو رسوله، أو دين الإسلام، أو يستهزئ بالله، أو رسوله، أو دين الإسلام؛ كما وقع لنفر على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما استهزؤوا به، وببعض الصحابة الكرام، فأنزل الله تعالى في شأنهم: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ . لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65-66].

وهناك كفر يكون بالأعمال؛ كالذي يسجد لغير الله، أو يذبح لغيره، أو ينذر لغيره، أو يدعو غيره.

فليس الكفر -في شرعنا- محصورا بالاعتقاد فقط، والذي يأتي مكفِّرا -بالقول أو بالعمل- لا يُنظَر في عقيدته، ولا يقال له: ماذا تعتقد؟ أتعتقد الإسلام أم لا؟ أتصدق الرسول أم لا؟ أتستحل أم لا؟ هذا لا وجود له ولا محل -في مقامنا هذا-، فالقول -إذا كان كفرا- فهو كفر بذاته، والعمل -إذا كان كفرا- فهو كفر بذاته؛ هذا هو الكفر الأكبر.

وأما الكفر الأصغر؛ فهو الذي يقال له في لسان السلف: «كفر دون كفر»، أي: كفر لا يُخرج عن الملة، ولا يُخرج عن الإسلام، وإنما هو مُسَمًّى بالكفر -على وجه الزجر والردع-.

وضابطه -كما قال العلماء-: كل ذنب أو معصية أطلق عليها الشرع اسم الكفر، وهي لا تخرج عن ملة الإسلام؛ وقد عرفنا آنفا أن كل ما دون الكفر -من المعاصي والسيئات- لا يُخرج عن الملة، ولا يكفر به المسلم؛ فإذا وجدنا في كلام الله تعالى أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- إطلاق لفظ الكفر على شيء من هذه المعاصي أو السيئات؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نفهم أنها تخرج عن الملة، وإنما هذا يقال له: كفر دون كفر.

كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت»، وكما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «كفر بالله تبرؤ من نسب -وإن دقَّ-»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك»، ونحو ذلك.

فهذا كله يقال له: كفر أصغر؛ لأن هذه الأعمال التي سمعناها -من قتل المسلم، أو الطعن في الأنساب، أو النياحة على الميت، أو الحلف بغير الله، أو غير ذلك-؛ كل هذه الأعمال لا تخرج عن ملة الإسلام، وإنما هي معاصي وسيئات ومنكرات، فإطلاق الكفر عليها إنما هو على سبيل الزجر والردع والترهيب؛ حتى يتأكد وقع ذلك في النفس، ويُفسَّر الكفر عندئذ -عند أهل العلم- بكفر النعمة، أو نحو ذلك -كما تجده في لسان السلف وأهل العلم-.

فهذا هو جامع القول في حقيقة الكفر -في الشرع، وعند أهل السنة والجماعة-، ثم إننا نتعرض لأصل الخوارج -من بعد-، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم نجنا من الفتن ما ظهر وما بطن، وأخرجنا من هذه الدنيا على ما تحبه وترضاه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت