تهافت الع"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542189
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة العاشرة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة العاشرة من تهافت العلمانية
5405 زائر
28/02/2014
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة العاشرة)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فلا تزال رحلتنا ماضية مع مظاهر الحكمة الإلهية في الشريعة الإسلامية، وهذا أوان التعرض لباب العبادات.

وأول ما يسترعي انتباهنا أن هذا الباب في حد ذاته يمثل مظهرا جليلا من مظاهر الحكمة لما عرفناه من أن العبادة هي الغاية التي لأجلها خُلق الخلق، وقامت عليها ساق التكليف والشرع، فكان تشريع العبادة في حد ذاته مظهرا من مظاهر الحكمة الإلهية.

ثم إن هناك مظهرا آخر يتجلى في قاعدة العبادات التي هي التوقيف، فإن العبادة مبناها على التوقيف، لا عبادة إلا بإذن من الله، ولا قربة إلا بشرع من الله، فمن تعبد لله بشيء لم يأذن به، فإنه مردود عليه، وليس موافقا لمراد الله -تعالى- وشرعه؛ كما قال ربنا -جل وعلا-: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، وكما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».

فالعبادة مبناها على التوقيف، وهو عين الحكمة، فقد عرفنا أن الله -تعالى- لم يكل العباد إلى أنفسهم، ولم يحلهم على عقولهم وأهوائهم؛ لأن العقول متباينة، والأهواء مختلفة، فلو وُكل الناس إلى عقولهم وأهوائهم لاضطربت حياتهم، فكيف بالعبادة التي هي الغاية من خلقهم؟! فكانت الحكمة تقتضي ألا يحال العباد على أهوائهم في عباداتهم، بل لا بد أن تكون موافقة لمراد ربهم، ولا يُعرف مراد الرب إلا بالتوقيف والنص.

وهناك مظهر آخر من مظاهر الحكمة في العبادة، وهو الذي يتجلى في جانب الابتلاء، وقد تكرر معنا كثيرا وسيتكرر، فإن العبد في حياته كلها مبتلى ممتحن، فمن الابتلاء في العبادة أن العبادة لا بد فيها من مشقة وكلفة، وهذا هو معنى التكليف في الأصل، فإن التكليف كما يقول أهل الأصول: إلزام بما فيه مشقة، ولا بد من هذه المشقة حتى يتحقق الشرع، وحتى يستقيم الأمر والنهي، فلا بد من مجاهدة العبد نفسه في طاعة ربه حتى تتحقق طاعته على ما يريده ربه، وحتى يقيم جادة الأمر والنهي في نفسه، وهي التي ينبني عليها الثواب والعقاب، فلا ينبني الثواب ولا العقاب إلا على مجاهدة النفس.

فالعبادة لا بد فيها من مشقة، ولكن كما أوضحناه من قبل فإن مشقة العبادة مشقة محتملة، هي في وسع الإنسان، ليست خارجة عنه؛ كما قال -تعالى-: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وكما قال -تعالى-: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، فلا تكليف إلا بما يستطيعه الإنسان، وأما ما خرج عن قدرته جملة فإنه لا يكلف به، فهذا المظهر فيه الحكمة والرحمة على حد سواء.

ومن الابتلاء في العبادة -أيضا- التسليم لمراد الرب -جل وعلا-، فإن كثيرا مما يدخل في العبادة لا يستطيع العبد أن يدرك الحكمة منه على وجه التفصيل، وهي التي يقول فيها أهل العلم: الأحكام التي لا تعقل علتها، وهذا كثير في أمور العبادات، فانظر إلى الصلاة -مثلا- قد جعلها الله -تعالى- بعدد معين، وبصفة معينة، فلا يمكن على وجه التفصيل إدراك العلة من هذا العدد أو من هذه الصفة، لماذا فرض الصبح ركعتين؟ ولماذا فرض الظهر أربعا؟ ولماذا فرض المغرب ثلاثا؟ ولماذا فرضت الصلاة على هذه الصفة من القراءة والقيام والركوع والسجود؟ ولماذا؟ ولماذا؟ فكل هذه أمور لا نستطيع لها جوابا إلا أن نقول: هكذا أراد الله.

وليس ذا بعيب، ولا مناقضا للفطرة، فإنك لو ذهبت إلى رجل يخيط لك ثوبا، وطلبت منه أن يخيطه على صفة معينة، فإنه لا يعترض عليك؛ لأن الأمر راجع إلى إرادتك واختيارك ومحبتك، فإن أردته على صفة كذا فهو لك، وإن أردته على صفة كذا فهو لك، ولله المثل الأعلى.

فالله -جل وعلا- أراد أن تكون الصلاة على هيئة كذا، فليكن ما أراده، ولا اعتراض، ولا يقال: لما؟ ولا كيف؟ وأراد أن يكون الحج على صفة كذا، فليكن ما أراد، ولا اعتراض، ولا يقال: لما؟ ولا كيف؟ وهكذا.

إلا أن الحكمة الإجمالية التي يمكن أن نتوصل إليها هي حكمة الابتلاء، فإن الله -تعالى- يبتليك حتى تسلم لمراده، وحتى تفعل ما أمرك به من غير أن تنظر في: لما؟ وكيف؟ ولا بد من هذا حتى يتحقق التسليم، فإن العبادة مبناها على التسليم، لا يكون العبد عبدا إلا إذا سلم لربه، وفوض إليه، ووثق به، وتوكل عليه، وكان مع مراده يدور معه حيثما دار؛ كما قال الأئمة قديما: ندور مع السنة حيثما دارت، لا نقول: لما؟ ولا كيف؟ لأن ما أمر الله به لا يكون إلا مصلحة، وما نهى عنه لا يكون إلا مفسدة، عرفت ذلك أم جهلته، فليس ذا بمهم وإنما المهم أن تفعل ما أمرك الله به.

فهذه مظاهر إجمالية للحكمة الإلهية في تشريع العبادة عموما.

وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى تفاصيل العبادات، فإننا نقف على المزيد والمزيد من صور الحكمة، وكما اكتفينا في العقائد بأركان الإيمان الستة، فإننا نكتفي في العبادات بالمباني الأربعة التي تمثل مع الشهادتين أركان الإسلام؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا»، فلنتوقف مستعينين بالله -تعالى- عند المباني الأربعة، محاولين أن نستلهم بعض ما فيها من الحكم، والله -تعالى- هو الموفق لما يحبه ويرضاه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أول المباني الأربعة، وأصلها، وأساسها، وأعظمها: الصلاة.

والصلاة عمود الإسلام، والصلة بين العبد وربه، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الفارق بين الإسلام والكفر، فمن صلى فهو مسلم، ومن لم يصل فليس من المسلمين.

هذه الصلاة إخوة الإسلام إذا أردنا أن نتكلم عليها، فإن الكلام يطول؛ لأننا نتكلم كما ذكرته على الصلة بين العبد وبين الرب، وهذه الصلة لا بد أن تكون في أشرف ما يكون، وأسمى ما يكون، ولا بد أن تكون أعظم تعبير عن عبادة العبد وذله وخضوعه لربه -جل وعلا-، وهكذا الصلاة، فإن الله -تعالى- شرعها حتى تكون مظهرا دائما متكررا للعبادة والذل والاستكانة بين يديه، ولعل هذا من الحكم في تشريعها بوصف التكرار في اليوم الواحد، فإن الصلاة تتكرر في اليوم مرارا من دون سائر العبادات -أعني المباني على وجه الخصوص-، ولعل هذا يرجع إلى ما ذكرته من كون العبد ماثلا في عبادته قائما بها قائما بذله واستكانته على وجه التكرار دائما، وقد عرفت أن العبادة هي الغاية التي لأجلها خلقت، فكان من حكمة الرب -جل وعلا- أن تكون هذه الغاية ملازمة لك في حياتك، لا تنفك عنها، وكلما كنت إليها أقرب، كلما كنت بوظيفتك أقوم، والصلاة أعظم ما يعبر عن ذلك.

تأمل أخ الإسلام في هذه الصلاة التي تؤديها، تأمل أولا في مقدماتها من الطهارة حتى يمثل العبد بين يدي ربه على أكمل هيئة وأتمها، شرع له أن يتطهر حتى يتنظف ويتجمل، فإنه سيقف بين يدي ملك الملوك، بين يدي سيده وفاطره ومولاه، ولا يليق بالعبد أن يقف بين يدي سيده على غير هيئة طيبة.

وقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيّن أن هذه الطهارة يحدث فيها تكفير للخطايا والسيئات، بين -صلى الله عليه وسلم- أن العبد إذا توضأ خرجت منه كل خطيئة كان قد اقترفها بجارحته التي يغسلها، فإذا غسل وجهه خرجت كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع آخر قطر الماء، وكذا إذا غسل يديه، وكذا إذا غسل رجليه، وما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حق.

فإذا تأملت في ذلك وربطت بينه وبين الصلاة اتضح لك مظهر من مظاهر الحكمة، وهو أن يتنظف العبد لا من مجرد القذر الحسي بل من القذر المعنوي، فإنه لا يليق به أن يقف بين يدي سيده وهو على خطيئة، فشرع له أن يتطهر من خطاياه أولا ما استطاع قبل أن يقف في مقام العبودية بين يدي ربه.

فهذه الطهارة، وقد كان السلف يعظمون شأنها، حتى ذُكر عن أحدهم أنه كان إذا قام يتوضأ اصفر وجهه، وارتعد بدنه، فإذا خوطب في ذلك قال -ما معناه-: إنه سيقف بين يدي الرب.

فأين هذا من مقام الغفلة؟ الذي يعترينا جميعا، نسأل الله السلامة والعافية والعفو.

إننا نستهين بهذا المقام، ولا نقدره حق قدره، ولا يستحضر أحدنا قيمة ما يقوم به في هذه العبادة الجليلة، ووالله ثم والله لقد قدرنا الصلاة حق قدرها، وأديناها بحقها، فإن حياتنا ستتغير، وسيتحقق قول ربنا -تعالى-: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].

فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ليست صلاتي وصلاتك التي نقف فيها غافلين لاهين، وإنما الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي التي تقدر حق قدرها، وهي التي يستحضر فيها مقام الرب ومقام العبد -أيضا-، وبداية الاستحضار من الطهارة كما عرفت، وماذا بعد؟

تقف في صلاتك مستقبلا للقبلة، للوجهة التي تتوجه فيها إلى بيت ربك، إلى أعظم مكان على ظهر هذه الأرض؛ كما أمر الله، وكما شرع رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ثم تقف خاضعا خاشعا ترفع يديك، ورفع اليدين تعظيم، وعموما كل أمر تأتيه في صلاتك لا بد أن يكون فيه شيء، لا بد أن تكون فيه حكمة، ولا بد أن يكون فيه معنى تستحضره، والله المستعان، فرفع اليدين تعظيم وإجلال.

ثم تضع يديك على صدرك وقفة العبيد، وقفة الخاشعين، أهل الذلة والخضوع والاستكانة، وهذا كما يقول فيه بعض الفقهاء: هيئة من هيئات الصلاة، في اصطلاح لبعضهم، فحتى هذه الهيئة فيها معنى، عرفه من عرفه، وجهله من جهله.

ثم إنك تفتتح صلاتك بالتكبير الذي هو تعظيم الرب، الله أكبر، أكبر من كل شيء، أكبر من كل مخلوق، أكبر من كل ما سواه، ومن سواه، أكبر من دنياك، أكبر من ولدك، أكبر من سلطانك، أكبر من مالك، فكيف تقول بلسانك: الله أكبر، وأنت في قلبك لا تستشعر أنه أكبر من كل شيء؟! ومن استشعر أنه أكبر من كل شيء أقبل عليه وحده، ولم ينشغل بسواه، وهذا هو المطلوب في الصلاة، المطلوب في الصلاة ألا تنشغل بما سوى الله -تعالى- أبدا، فلو وُفقت لاستحضار معنى التكبير في أول الصلاة، فإنه ينفتح لك هذا الخير -بإذن الله-.

ثم إنك تفتتح صلاتك بأدعية علمناها النبي -صلى الله عليه وسلم-، لو أردنا أن نخوض في كل دعاء منها وما فيه من المعاني فإن ذلك سيطول، ولكن حسبك أن تعرف أن هذا الاستفتاح يعد مقدمة للدخول على الملك -جل وعلا-.

ثم تنتقل بعد الاستفتاح إلى تلاوة كلام ربك الذي تقف بين يديه، لا كلام أشرف من كلامه، ولا كلام أعظم من كلامه، ولا كلام أجل من كلامه، فاستحق أن تُبتدأ به الصلاة، تبدأ بالفاتحة وفيها ما فيها من الأسرار والمعاني والحكم البليغة، ثم تنتقل إلى قراءة ما تيسر، وكلام الله عموما هو شفاء القلوب والأبدان، وراحة الصدور والأفئدة، وهو سعادتك وفلاحك، إذا قرأته متدبرا له، متأملا لما فيه، فإن ذلك الخير كل الخير.

فإذا انتهيت من قراءتك رفعت يديك تعظيما وانحنيت، إنه انحناء، أتدري ما الانحناء؟ إنه الخضوع والتعظيم، عبد يقوم بين يدي ملك، ينحني له، يخضع له، يذل بين يديه، والخضوع في الركوع أظهر، والذل في السجود أظهر، فجمعت الصلاة بين الأمرين، فالركوع مقام خضوع، فناسب فيه التعظيم، تقول: سبحان ربي العظيم، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب»، التعظيم هو المناسب لهذا المقام؛ لأنه مقام خضوع.

فإذا انتهت من ركوعك عدت إلى حالك من القيام رافعا يديك تعظيما، وفي قيامك هذا تحمد ربك وتثني عليه؛ كما بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم ربنا لك الحمد، اللهم ربنا ولك الحمد، ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، اللهم وربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد... إلى آخره، ثناء وتحميد وتمجيد للرب -تبارك وتعالى-.

فإذا انتهيت من هذا الركن الذي هو القيام، وهو الفاصل بين ركنين، بين الركوع والسجود، إذا انتهيت منه خررت ساجدا، وما أدراك ما السجود؟! إنه الذل، والعبادة مدارها على كمال الحب مع كمال الذل، فالسجود يتجلى فيه ذلُّك كعبد عندما تضع أشرف موضع في بدنك على الأرض، أشرف موضع في بدنك هو أنفك؛ ولهذا كان أبرز عضو في البدن، كان أعلى عضو في البدن، وكان يذكر في مقام الكبر والذل على حد سواء، فإذا تكبر العبد قيل فيه: شمخ بأنفه، وإذا ذل قيل فيه: أرغم أنفه، فكان السجود مشتملا على وضع هذا العضو على الأرض التي تطؤها بقدمك، وتدب عليها بقدمك، واستحضر شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قديما، فإن مسجده لم يكن كمسجدنا مفروشا بهذه المفروشات، بل كان مفروشا بالحصباء، وكان يتعرض للوحل والطين؛ كما ثبت في الصحيح من سجوده -صلى الله عليه وسلم- صبيحة ليلة القدر وكان مسجده قد مُطر، فسجد -صلى الله عليه وسلم- في الماء والطين، ولما انصرف من صلاته رؤي على وجهه أثر الماء والطين، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-، وأما نحن فلا نسجد في ماء وطين، ولا نسجد على حصباء، فلماذا لا نسجد؟! ولماذا لا نصلي؟! ولماذا نغفل وننام؟! نسأل الله العافية والعفو عنا أجمعين.

فهذا هو السجود عبد الله تضع فيه أنفك على الأرض، وليس هذا فقط بل صفة السجود نفسه، فيها سجود لكل عضو في بدنك، حتى أطراف أصابع القدمين، فإن السجود كما علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن يكون على سبعة أعظم: الجبهة مع الأنف، والكفان، والركبتان، وبطون أصابع القدمين -هكذا- لا بد أن تكون قدمك في السجود هكذا، لا يجوز أن تصنع هكذا، ولا أن تضع إحدى رجليك فوق الأخرى، فمن فعل ذلك فلا سجود له، وصلاته باطلة.

فحتى في هذه الهيئة أصابع قدميك على هذه الشاكلة كأنها تسجد لربها في سجودك أنت، ينال كل عضو حظه من الذل والاستكانة.

ولما كان مقامك في السجود مقام ذلك ناسب أن تتذكر فيه علو الرب، فتقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى؛ لأنني في مقامي هذا أسفل، مقامي سفول، فأتذكر فيه مقام ربي من العلو.

وليس هذا فقط، بل أنت في ذلِّك في سجودك يكافئك ربك بالقرب منه، فكلما سجدت كلما اقتربت، ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وهذا ينبني على القاعدة المعروفة: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، فمن ذل بين يدي ربه، قربه ربه وأدناه، وكلما زاد حظك من الذل، كلما زاد حظك من القرب، فلما اقتربت من ربك، شُرع لك أن تدعوه، «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء»، وفي الحديث الآخر: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لك» أي: جدير أن يستجاب لكم، جدير أن يستجاب لك؛ لأنك في مقام يسمح بهذا، وهو مقام الذل والاقتراب؛ ولأنك تدعو ملكا كريما جوادا، وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه حيي ستير، يستحي أن يطلب منه عبده شيئا فيرده خائبا، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، فتجتهد في الدعاء في السجود، وتستحضر ذلك واستكانتك، وعلو ربك وشرفه -جل في علاه-، ولما كان هذا الركن -الذي هو السجود- على هذه الشاكلة كان هو الركن الوحيد الذي يتكرر في الركعة، فإنك تسجد مرتين في الركعة الواحدة، ولا تكرر ركوعك، ولا قيامك، ولا جلوسك بين السجدتين؛ لأن السجود هو أعظم ما يعبر عن مقامك كعبد.

فإذا انتهيت من سجودك، فصلت بين السجدتين بجلسة هي جلسة العبيد، من تأمل في صفتها عرف أنها جلسة العبد، إنك تجلس جاثيا على ركبتيك، واضعا كفيك عليهما، ذليلا مستكينا خاشعا وهي جلسة العبد، فإن العبد إنما يجلس هكذا.

ثم تدعو في هذا الجلوس كما دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم-: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني.

دعاء يناسب جلوسك كعبد.

ثم تكرر السجود، ثم تقوم إلى الركعة الثانية، ويتكرر هذا الأمر، عبادة في عبادة، ذل في ذل، خضوع في خضوع، تعظيم في تعظيم، فأي شيء أكرم من هذا؟ وأي حكمة أظهر من هذا؟ وأي مقام يعبر فيه عن العبودية أعلى وأظهر من هذا؟

وأعود إلى ما ذكرته آنفا: من صلى على هذه الشاكلة، صلى كما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ظاهرا وباطنا، وأعني بقولي: باطنا الخشوع، أن يكون خاشعا، أن يكون ذليلا، أن يكون مطمئنا، أن يكون متدبرا متأملا، لا في قراءته، بل في أفعاله، في انتقاله، يستشعر وهو راكع أنه ينحني لسيده، ويستشعر وهو ساجد أنه ذليل لسيده، وهكذا، فمن صلى على هذه الشاكلة حقق عملا وواقعا قول الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، والمجتمع إنما ينصلح بهذا، إنما ينصلح المجتمع بكف الفحشاء والمنكر عنه.

فانظر -رحمك الله- إلى هذه التربية العظيمة، انظر إلى هذه الحكمة الباهرة الجليلة، أي تربية أعظم من هذا؟ لو صلى كل واحد فينا على هذه الشاكلة لصرنا خيار الناس، وأفضل الناس، ولانصلح حالنا، وانصلح مجتمعنا، يخرج أحدنا من صلاته فلا يمكن أن يؤذي مخلوقا، ولا يمكن أن يضر إنسانا، ولا يمكن أن ينظر إلى ما حرم الله، ولا يمكن أن يسمع ما حرم الله، فتصير الحياة حياة كريمة سعيدة هنية، وبهذا ينصلح حال الناس.

وأما الذي يصلى هكذا كيفما اتفق، أو الذي لا يصلي أصلا، فحسبك بالفساد، وحدث عنه ولا حرج.

فالتربية إخوة الإسلام إنما تأتي من هنا، البداية إنما تكون من هنا ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، فلنغير ما بأنفسنا، ولنغير ما بقلوبنا، ولنعد إلى ربنا عبادا خاضعين أذلاء حتى يرفع الله ما بنا من الغلاء والوباء والشر والفساد، إنه حسبنا ونعم الوكيل، وهو ولينا ومولانا، ليس لنا ولي سواه.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت