تهافت الع"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :540078
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الثالثة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الثالثة من تهافت العلمانية
3541 زائر
21/12/2013
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الثالثة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-،وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد؛ فإن مما يحسن الكلام عليه في رحلتنا مع العلمانية: الأسباب والعوامل التي أدت إلى ترسيخ هذا المذهب، وقد عرفنا أن السبب الإجمالي لذلك هو قبول النصارى لبعض العقائد الوثنية -ومنها العلمانية-؛ أملًا في التمكين لدينهم، واشتراءً بآيات الله ثمنا قليلا.

إلا أن هناك بعض الأسباب التفصيلية، التي أدت إلى تقوية العلمانية وترسيخها في حياة القوم، والتعرف على هذه الأسباب مما يفيد في مقامنا هذا.

وقد اعتنى شرعنا ببيان الشر -بأسبابه وطرقه-؛ حتى يسهل تجنبه والحذر منه؛ كما قال ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 55].

فالتعرف على الأسباب المذكورة يفيد في معرفة العلمانية -بحقيقتها وأبعادها-، لاسيما وأن هذه الأسباب موجودة مبثوثة فينا، ويراد -من خلالها- تقوية العلمانية في حياتنا -كما قويت في حياة الغرب-، فزاد الأمر بذلك أهمية وخطورة.

وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- على أول الأسباب وأهمها وأخطرها، وهو: التنفير عن الدين.

والمؤسف: أن هذا التنفير لم يحصل من قِبل أعداء الدين؛ بل من قِبل المنتسبين إلى الدين أنفسهم!!

وذلك أن رجال الدين -من النصارى- لم يكونوا رجال دين حقا؛ بل كانوا رجال دنيا -بكل ما تعنيه الكلمة-، فنفَّروا عن دينهم، وصدُّوا عن سبيله -على عُجَره وبُجَره-، وتصرفوا تصرف الظالمين الجبابرة، والطغاة المستبدين، لا تحكمهم عقيدة، ولا يعقلهم دين.

وقد تجلى طغيانهم في مظاهر عدة:

منها -على المستوى الديني-: أن قساوسة النصارى -من قديم- جعلوا من منصبهم وكنيستهم نظاما إلهيا، لا يقبل الجدل، ولا المعارضة، ولا النقاش، وما كانوا يسمحون بالاختلاف معهم في أية مسألة، ومن جرؤ على الخلاف والمعارضة؛ فإنه يُرمَى بالهَرْطقة (والهرطقة عندهم كالكفر عندنا)، فكل من كان يجهر بمخالفة الكنيسة، أو معارضة رجالها، أو النظر في أي أمر تعلنه أو تقرره؛ فقد كان مصيره الكفر، واللعن، والطرد؛ ولم يكتفوا بهذا الحكم حتى ضموا إليه أحكاما دنيوية -من التعذيب والقتل-، ولهم في ذلك وقائع مشهورة، يعرفها من درس تاريخهم القذر.

وهذه شهادتهم على أنفسهم:

يقول المؤرخ الإنجليزي هربرت ويلز -وهو من علمائهم في القرن الماضي - في كتابه «معالم تاريخ الإنسانية»: «ولم تعد لهم رغبة في رؤية مملكة الرب موطَّدة في قلوب الناس، فقد نسوا ذلك الأمر، وأصبحوا يرغبون في رؤية قوة الكنيسة -التي هي قوتهم هم- متسلطة على شئون البشر، وكانوا في سبيل توطيد تلك القوة على أتم استعداد للمساومة مع أي شيء، حتى البغض والخوف والشهوات المستقرة في قلوب البشر، ونظراً لأن كثيراً منهم كانوا على الأرجح يرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة، لم يسمحوا بأية مناقشة فيه، كانوا لا يحتملون أسئلة، ولا يتسامحون في مخالفة، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها، وقد تجلى في الكنيسة في القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكمله، وقد تجعله أثراً بعد عين، فلم تكن تستشعر أي اطمئنان، وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان، كما تبحث العجائز الخائفات عن اللصوص تحت الأَسِرَّة وفي الدواليب قبل الرجوع إلى فراشهن».

هذا كلامه، وهو يعطيك صورة إجمالية عن حال القوم.

وكما أشرت إليه؛ فإن من درس تاريخهم وعرفه، يعرف ما أقوله جيدا.

ونظرةٌ في مجامعهم تكفيك، تلك المجامع التي كانت تُعقد -حينا بعد حين- للنظر في ما حَلَّ من النوازل في ملة النصارى، فقد كانوا يخرجون منها -كل مرة- يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويطرد بعضهم بعضا من رحمة الرب -زعموا-!! والأمثلة كثيرة جدا.

ولا ينسى أحد -ممن درس التاريخ وعرفه- تلك الفضيحة الكبرى، والجريمة البشرية العظمى، التي ارتكبها أولئك الناس في حق من كان يخالفهم أو يعارضهم، مما يعرف تاريخيا بـ«محاكم التفتيش»؛ فمعلوم أن هذه المحاكم كانت تُنصب لمحاكمة من يخالف الكنيسة، وكان الذي يدخلها يُسام سوء العذاب، ويُتعرض له بأبشع أنواع النكال، حتى يموت؛ كل هذا لمجرد مخالفته للكنيسة، أو إبداء اعتراض على أمر تقرره، أو مبدأ تؤكده، أو عقيدة تدعو إليها.

ولا ينسى أحد -أيضا- عرف التاريخ ودرسه أن هذه المحاكم بعينها هي التي شهد فيها مسلمو الأندلس الإبادة الجماعية؛ نقول هذا ردًّا على من رمى إسلامنا بالإرهاب، والتطرف، والقتل، والفساد في الأرض؛ وكما نقول في أمثالنا الدارجة: «الذي يكون بيته من زجاج، لا يستقيم له أن يقذف بيوت الناس بالحجارة»!!

فهذه صورة من صور طغيانهم الديني، وهو الأمر الواقع في هذه الأمة واقعا ملموسا، والقاعدة التي يقررها علماؤنا: أن مبتدعة هذه الأمة لهم أوفر حظ ونصيب من مشابهة الكفار، فكما أن الكفار يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، لا على شيء، ولا على عقيدة صحيحة، ولا على ولاء وبراء مستقيم، وإنما هو على أهوائهم وبدعهم؛ كما أن الكفار كذلك، فكذلك مبتدعو هذه الأمة، يبتدعون بدعهم، ويحدثون محدثاتهم، التي ليست من الإسلام في قليل ولا كثير، ثم لا يكتفون بذلك حتى يكفروا من خالفهم فيها، ويستحلوا دمه وماله وعرضه؛ كما عرفناه بيِّنًا في شأن الرافضة، وفي شأن الخوارج، وهكذا شأن عامة أهل البدع، والكل ينتسب إلى الإسلام والتدين، فصنيعهم هذا -إذن- أبلغ تنفير عن الإسلام والتدين؛ كما نفَّر من كان قبلهم من أهل الكتاب، فكذلك هؤلاء يسيرون على السَّنن، حذو النعل بالنعل؛ كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.

فلا يجوز لأحد في هذه الأمة أن يبتدع في دين الله، أو أن يحدث فيه ما ليس منه، ولا يجوز له من بعد ذلك أن يوالي ويعادي عليه، فيكفر من خالفه، أو يفسقه، أو يبدعه، فضلا عن استحلال دمه أو ماله أو عرضه؛ فإن ذلك كله عند الله عظيم، وهو منفِّر عن دين الله، وصادٌّ عن سبيل الله، وهو واقع في مشابهة أهل الكتاب من قبله؛ ولا ينقضي عجبك -بل ذهولك- حينما تعرف أن هذا الشخص بعينه يدعو إلى تحكيم الشريعة!! وينفِّر عن العلمانية!! وهو نفسه الذي يقوي العلمانية ويرسخها -بفعاله وصنائعه الخبيثة-.

ثم إننا ننتقل -من بعد ذلك- إلى طغيان القساوسة السياسي، مع أنهم هم الذين قرروا في مجمع نيقية أنهم يعطون ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؛ ولكنهم -كعادتهم دوما، وكما أخبر ربنا عنهم-: يقولون ما لا يفعلون!!

فقد أباح القساوسة لأنفسهم أن يتدخلوا في سياسات ملوكهم، واشتد نفوذهم -جدا- وعَظُم؛ لما أعطوه لأنفسهم من حق التحليل والتحريم، والمغفرة والإقصاء، فقد قرروا لأتباعهم أنهم نواب الرب، يحلون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، ويغفرون لمن يشاءون، ويُقْصون من يشاءون، قد أوكلهم الرب في ذلك -زعموا-!!

فلما تقررت هذه العقيدة الفاسدة في قلوب أتباعهم -حكاما ومحكومين-؛ عَظُم نفوذهم جدا، واشتدت قوتهم جدا، حتى كان منهم أنهم يعزلون من يشاءون من الحكام، ويولُّون من يشاءون من الأباطرة والسلاطين، لا يعارضهم أحد، ولا يخالفهم أحد، وكان من يخالفهم في أمر سياسي من الحكام؛ يذلونه ويقهرونه، حتى يكون منه أشد ألوان الذل والضعف.

واستمع إلى هذين المثالين، والأمثلة كثيرة جدا:

المثال الأول: ما جاء في الكتاب المومى إليه آنفا -«معالم تاريخ الإنسانية»-: «أنه حصل خلاف بين الملك يوحنا ملك الإنجليز وبين البابا، فحرمه البابا وحرم أمته، فعُطِّلت الكنائس من الصلاة، ومُنعت عقود الزواج، وحُملت الجثث إلى القبور بلا صلاة، وعاش الناس حالة من الهيجان والاضطراب؛ حتى عاد يوحنا -الملك- صاغرا يقر بخطيئته، ويطلب الغفران من البابا، ولما رأى البابا ذله وصدق توبته؛ رفع الحرم عنه وعن الأمة»!!

المثال الثاني: ما جاء في هذا الكتاب وفي غيره: «من حادثة الامبراطور الألماني هنري الرابع مع البابا جريجوري السابع، وذلك أن خلافا نشب بينهما حول مسألة «التعيينات» أو ما يسمى «التقليد العلماني»، فحاول الامبراطور أن يخلع البابا، ورد البابا بخلع الامبراطور، وحرمه، وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له، وألَّبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الامبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا؛ فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الامبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن في وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط، واستجمع شجاعته، وسافر مجتازا جبال الأَلْب -والشتاء على أشده-، يبتغي المثول بين يدي البابا ببعض المرتفعات، وظل واقفا في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان، متدثرا بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، يحمل عكازة، مظهرا كل علامات الندم، وأمارات التوبة؛ حتى تمكن من الظفر بالمغفرة، والحصول على رضا البابا»!!

وكيف لا يقع هذا كله، وجريجوري هذا نفسه هو الذي أعلن أن الكنيسة في منصب إلهي، تحل ما تشاء، وتحرم ما تشاء، وأن للبابا سلطة في عزل من يريد من الحكام، لا يستطيع أحد أن يعارضه في ذلك؟!

فحسبك بهذا شرا وفسادا، وأي شيء يُتوقع من الحكام إذا كان أهل الدين على هذه الشاكلة؟! إذا تدخل أهل الدين في السياسة، ودسوا أنوفهم في أمورها ومجالاتها، وادَّعوا لأنفسهم هذا الحق الذي لا يكون إلا لرب العزة -تبارك وتعالى-؛ فماذا تريد من الملوك؟! ألا تريد منهم أن يعادوا الدين؟! ألا تريد منهم أن يستضعفوا أهله؟! ألا تريد منهم أن يترسخ عندهم فكر الفصل بين الدين والدولة؟!

فهكذا وقع في الأمة الصليبية من قبلنا، وهكذا يقع في هذه الأمة، بجهل المنتسبين إلى الدين، وغبائهم، وسوء صنيعهم؛ ونسأل الله أن يقينا الفتن كلها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نختم -إخوة الإسلام- بصورة أخرى من صور طغيان القساوسة، وهي صورة الطغيان المادي.

فإن القوم لم يتصرفوا بمقتضى الزهادة والورع؛ بل جمعوا المال -حلاله وحرامه-، وأخذوه بكل سبيل، والتمسوه بكل طريق، حتى كانوا يأخذونه من الناس غصبا وقهرا، وتوسعت أملاكهم في ذلك، وصارت الكنيسة أغنى المؤسسات، لا ينافسها في غناها أحد.

مع أن المسيح -عندهم- يقول بخلاف ذلك، ونحن نذكر ما جاء من أقاويله في أناجيلهم -على سبيل إقامة الحجة عليهم-، وإلا فإن موقفنا من الأناجيل -كما هو معلوم-: أنها بُدِّلت وحُرِّفت، وليس كل ما فيها يصح نَسَبه إلى المسيح -عليه السلام-.

جاء في «إنجيل مرقص»: أن المسيح قال: «مرورُ جمل من ثقب إبرة أَيْسَرُ من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

وجاء في «إنجيل مَتَّى»: أنه قال لأتباعه وحواريِّيه: «لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم، ولا مِزْوَدا للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصا».

فهذه زهادة تامة في الدنيا، يأمر بها المسيح أتباعه؛ فماذا كان من القساوسة؟

يقول أندريه كريسون في كتابه «المشكلة الأخلاقية والفلاسفة»: «كانت الفضائل المسيحية -كالفقر، والتواضع، والقناعة، والصوم، والورع، والرحمة-؛ كل ذلك خيرا للمؤمنين، وللقسيسين، وللقديسين، وللخطب والمواعظ؛ أما أساقفة البلاد، والشخصيات الكهنوتية الكبيرة؛ فقد كان لهم شيء آخر: البذخ، والأحاديث المتأنقة مع النساء، والشهرة في مجالس الخاصة، والعجلات، والخدم، والأرباح الجسيمة، والموارد، والمناصب»!!

ولو أخذنا في ذكر الأمثلة، التي تبيِّن مدى الغنى الفاحش الذي وقع للكنيسة؛ فإن هذا يطول، فسنكتفي بمثالين فحسب.

قال المؤرخ الأمريكي ويليام ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»: «أصبحت الكنيسة أكبر ملاَّك الأراضي، وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا؛ فقد كان دير «فلدا» -مثلا- يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير «سانت جول» يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان «الكوين فيتور» (أحد رجال الدين) سيدا لعشرين ألفا من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة، وكانوا يقسمون يمين الولاء -كغيرهم من الملاك الإقطاعيين-، ويلقَّبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية... وهكذا أصبحت الكنيسة جزءا من النظام الإقطاعي... وكانت أملاكها الزمنية -أي: المادية- وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدرا للجدل والعنف بين الأباطرة والباباوات» هذا كلامه.

المثال الثاني: ما ذكره ويلز -المذكور آنفا- قال: «كانت الكنيسة تجبي الضرائب، ولم يكن لها ممتلكات فسيحة، ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب؛ بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهي لم تَدْعُ إلى هذا الأمر بوصفه عملا من أعمال الإحسان والبر؛ بل طالبت به كحق» هذا كلامه.

يطالبون بالضرائب، ويجبونها جباية الملوك والجبابرة، ويعتبرون ذلك حقا لهم؛ وهم رجال الدين، مصدر القدوة والأسوة، الذين يقولون في أنفسهم: إنهم نواب للرب!! فماذا تريد -إذن- من عامة الناس؟! وماذا تريد الملوك؟!

ولنستحضر هنا قول ربنا -تبارك وتعالى- حكاية عنهم، وذكرا لشأنهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34].

صدق ربنا، ومن أصدق من الله قيلا؟ وقد ذكرنا -آنفا- شهادتهم على أنفسهم.

فإذا نظر عامة الناس إلى شأن هؤلاء؛ فماذا تتوقع منهم؟! أتتوقع منهم رغبة في الدين، أم بغضا له؟! أتتوقع منهم تمسكا بالدين، أم نفورا عنه؟! أتتوقع منهم أن يعتمدوا في كل أمور حياتهم على تعاليم دينهم، أم يتخذونها وراءهم ظهريا؟!

وهذا هو ما يقع في هذه الأمة: تكلِّم الواحد من عوام المسلمين، فتقول له: اتق الله، وكن من الصالحين المتقين، وافعل الواجب، واترك المحظور؛ فتجده يقول لك: كيف، وقد رأيت الشيخ الفلاني لديه من السيارات، ومن العمارات، ومن الأموال في البنوك والمصارف؟! كيف، وقد رأيت الشيخ الفلاني يكذب، ويدلس، ويتلون، ويغير قوله بين عشية وضحاها؟! كيف، وقد رأيت الشيخ الفلاني يتهافت على الدنيا تهافُتَ الجنادب على النيران؟!

فانظر إلى شأن المنتسبين إلى الدين، كيف نفَّروا وصدُّوا عن نفس الدين، فأعطوا الفرصة بذلك لنفس العلمانية -التي يحاربونها ويعادونها- في الظهور والقوة والرسوخ؛ حتى صار عوام المسلمين الآن لا يرون بأسا أن يحكمهم نصراني -بشرط أن يكون عادلا-!!

هكذا تسمعون، وهكذا تشاهدون؛ لأنهم فقدوا الثقة فيمن ينتسب إلى الدين، وفقدوا الثقة فيمن يقف على المنابر، ويقول: قال الله، وقال الرسول.

فهذا السبب -أيها الإخوة- أخطر الأسباب، وأعظم الأسباب التي تؤدي إلى قوة العلمانية، ورسوخها في المجتمعات.

فانتبهوا، واحذروا؛ وكما كرَّرْنا دائما: لا تربطوا بين الدين وبين من ينتسب إليه، ولا تحاكموا الجميع بحكم واحد، ولا تضعوا الجميع في سلة واحدة؛ ولكن فرَّقوا وميِّزوا، وتمسكوا بدينكم، واعلموا أن الخير كل الخير فيه، ومن ثبت انحرافه من المنتسبين إليه؛ فإنه لا يمثل إلا نفسه، ولا يؤثر علينا، ولا على ديننا، ولا على التزامنا، ولا ينبغي لنا أبدا أن نترك ديننا، أو نبتعد عن ربنا؛ لمجرد صنيع أمثال هؤلاء.

نسأل الله -تعالى- أن يكفينا فتنتهم وشرهم، ونسأله -جل في علاه- أن يقينا الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، وأن يحيينا على الإسلام والسنة، ويتوفانا على الإسلام والسنة، وهو راض عنا بمنه وكرمه، إنه حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت